- سأبدأ بعنوان الرواية ”ملكوت هذه الأرض“ المستوحى من تعبير "إنجيلي"، ما الذي يعنيه لك أنت، ولماذا هذا الخيار؟
هدى بركات: العنوان هو، كما يبدو واضحاً، تحوير لـ"ملكوت السماوات". وفي متن الرواية عناصر عديدة تجتمع لإعطاء العنوان جملة من الإيحاءات. بداية من موقع الأحداث في جبال ومرتفعات عالية يفخر أهلها بـ"قربها من السماء"، وهي منطقة يكثر فيها القديسون بشكل استثنائي، مع ما يستتبع ذلك من سحرية ذات مرتكز ديني تتحول خرافة وعزلة، غالباً ما تلتصق بمشاعر الأقليات - أو من يشعرون أنهم كذلك- حين لا ينجح بناء الأوطان الجامعة.
في الوقت نفسه تبدو دعوة السماء ثقيلة وصعبة... فـ"هذه الأرض" هي واقع حقيقي. وأكاد أقول دنيوي... ولا تعطي السماء (أو وكلاؤها) تصريفاً له ... ولا ترد على أسئلته. بل إن لها أحياناً كثيرة ظلمها الكبير...لذلك تبدو هذه الـ"قداسة" أو هذا الـ "ملكوت" بوجهين متناقضين تماماً.
- تبدأين روايتك بالموت التراجيدي للمزوّق وذكرني هذا الموت بالشخصيات الميثولوجية التي تعرف مصيرها ولكنها تبقى حبيسة إيمانها بمعتقداتها فتكرر التراجيدية مرة تلو الأخرى، لماذا هذه البداية عندك؟ وهل يرمز هذه الموت لتمزق لبنان أو ”موت“ لبنان بالنسبة لك؟
هدى بركات: لأبدأ بالشقّ الأخير من السؤال: لا قطعاً. لا أعتقد أني استعملت في الماضي أو سأستعمل في
المستقبل "الترميز" بهذه الفجاجة، أو بهذه القصديّة المباشرة. ولا تعجبني الرواية التي تذهب إلى مثل هذا الترميز، بل أرى أن في ذلك وهن في السّرد. أظن أن فاجعة موت المزوّق التي تفتتح السّرد في بداية الرواية تعطي المناخ القدري لمسارات حيوات الشخصيات، لذلك نعود إليها في الصفحات الأخيرة. وهي أقرب ، أو هي لصيقة بوصفك لانصياع البشر لمصائر لا يدركونها أو لا ينفعهم إدراكها ... فتسير الشخصيات في الطرق المحاذية لخياراتهم ويكرّرون المآسي وهم يعرفون نهاياتها المرّة ... لكن في رواية "ملكوت هذه الأرض" هناك ما هو أبعد من هذه الدائرة العبثية ... إذ تنتمي هذه الشخصيات إلى مكان بقي موطناً ولم يتحوّل وطناً ... وبقيت الحكاية فيه رهن الخرافة والتغييب والعزلة إلى أن جاء استحقاق الأقدار الآيلة إلى الأسى (أو الحرب) والذي وقع عليهم كغضب لم يفهموا شيئاً من أسبابه ... وحين فهم بعضهم شيئاً لم ينفعه "فهمه" في الهرب منه ...
- هل كان لهذه الرواية أهمية وخصوصية، على الصعيد العاطفي، خاصة أنها عن منطقة تنحدر عائلتك منها؟ كما نلاحظ في الرواية أن الصوت المخنوق، وهو الصوت الجميل بالرواية، هو صوت طنوس المرتل والمغني الذي يتناوب على السرد مع شقيقته سلمى. لكن هذا الصوت، الذي ابتعد صاحبه عن أهله أدرك أن ”الموارنة“ ليسوا أقلية أو وحيدين أو مختلفين عن البقية بالقدر الذي يعتقدونه هم (طبعًا نفس الكلام يمكن أن ينطبق على الطوائف الأخرى الشيعة أو السنة إلخ.) هذا الصوت الذي يرفض الآراء المسبقة والعنصرية التي يحملها أهله والتي تلغي الأخر يبقى خافتاً ومخنوقاً وهو ما يقوله هو في نهاية الرواية، على الرغم من تصميمه على الغناء حتى ولو كان لنفسه فقط. هل دفعك ما حدث ويحدث في المنطقة من استقطاب وتخندق طائفي إلى استرجاع أصوات مخنوقة كهذه يكاد يطغى عليها الضجيج؟
هدى بركات: إن سؤالك يتضمن الإجابة بشكل من الأشكال. هذا الصوت الجميل الذي خرج من بئر جماعته واكتشف الآخرين غرق في حزن فرادته، واختنق بمعرفته التي لا يستطيع المشاركة فيها مع أحبّته. والآخرون هم تحديداً من شذّب صوته وثقّفه وأعطاه مداه وعمقه ... خطر التعصّب الأقلّوي أو غيره هو الإنفتاح على الآخر المختلف والإحتكاك الحقيقي به. كل أشكال التعصّب تغتذي من الإنعزال ومن التجهيل. لا تخاف الآخر إذا عرفته حقاً. هذا بديهي.
خرج طنّوس من جبله البعيد مضطراً لكنه دخل عالماً آخر. هناك تحوّل فرداً وسقطت عنه هيمنة الجماعة. هناك عشق وهناك غنّى ... وهناك إذن تشقّقت ببساطة جدران الخرافة التي تشيّدها الجماعات الدينية المتعصّبة. وهي طبعاً الخرافة التي يُستعاض بها عن التأريخ. هذه علّة عالمنا اليوم، وليس عالمنا العربي فقط لكنه عندنا ذو تأثير مباشر ومدمّر إذ هو لم يتحصّن بالحدّ الأدنى من المواطنة ولم تقم فيه دول حديثة. نحن ما دون الإنتماء الى أوطان. نحن ما زلنا في الإنتماء الى القبيلة والطائفة ... وهذه الأصوات المعترضة - المخنوقة - والتي تشكّل أقليّة ضئيلة تشعر بالغربة وبالوحشة أيضا ... وبكثير من الخيبة الدافعة الى اليأس أحياناً ... كمن يملك صوتاً جميلاً لا أحد يريد سماعه ... هذا إذا لم يُعاقب صاحب الصوت على صوته.
في "ملكوت هذه الأرض" الجبل الماروني ليس أكثر من نموذج. كان بإمكان هذه البقعة أن تكون قرية شيعيّة أوسنيّة أو غيرها، وبالتأكيد سيبقى منطق الرواية وكذلك آلية السرد هو نفسه... فعلت ذلك في روايات سابقة ولو كان المشروع الروائي مختلفاً. في "حجر الضحك" - على سبيل المثال - كان مجمل الحدث ومؤدّاه يقع في دائرة شيعة الجنوب اللبناني. هذا لأقول إن لإختياري منطقتي المارونية في روايتي الأخيرة بعداً عاطفياً، كما تقولين، لكنه ليس البعد الجوهري ولا هو البعد الأهمّ ... لذلك يُغضبني أن أقرأ عن "ملكوت هذه الأرض" توصيفاً على نحو "رواية العودة الى الجذور". هذا كلام سهل، كسول و ... سخيف جدا ...
- تتداخل الأصوات في الرواية ويتغير الإيقاع اللغوي والسردي بحسب تغير الأصوات والذي يحدث في نفس الفقرة أحياناً. وتجربين في اللغة بصورة مختلفة عن روايات سابقة فتارة الجمل قصيرة بإيقاع سريع يشبه اللهاث ويعكس الحالة النفسية للسارد/ة وتارة اللغة متأنية تذكر بهدؤ الجبال. ماذا عنت بالنسبة لك التجربة اللغوية في ”ملكوت هذه الأرض“؟
هدى بركات: أعتقد أن لغة روايتي هذه تحديداً تختلف عن كلّ ما كتبت في السابق لناحية استعمال العاميّة . لقد حرصت في رواياتي السابقة على اعتماد "جوهر" الفصحى الأرقى والأكثر أناقة وتماسكاً ولو دخل هذا النسيج بعض المفردات من واقع استعمالات مستجدّة، تعصرنه من داخله - إن جاز التعبير - لكن الإنتماء الحريص والمخلص لتلك الفصحى التي أنا شديدة الحب والإنبهار بها، بقي هو نفسه ... ولم أعتقد يوماً أن "تشويه" الفصحى هو الذريعة الفضلى لإنزالها الى اللغة الروائية "الحديثة" أو القريبة من الشارع. على أيّ حال الأدب هو لغته والأدب ليس قطعاً لغة الشارع...هذا رأيي...
لكن بالعودة الى لغة رواية "ملكوت هذه الأرض" سأقول بسرعة إن لغة رواية ما ليست مفرداتها. والعالم المتكامل لشخصيات هذه الرواية، والمتّسم بدلائل كثيرة وكثيفة على بدائيتهم أو جهلهم (أو تجهيلهم) لم يكن ليستقيم إلا بلغة تكون الأقرب الى طرائق تعبيرهم ... لكن أهمّ من كلّ ذلك أنهم هم من يروي وليس الراوي الغائب /أو الكاتب – أو ما يسمّى الكاتب الكلي القدرة - وهو ما كانت عليه كتابتي قبل هذه الرواية ... حيث كانت هناك دائما "استنابة" لي في التداخل مع الشخصيات ... هكذا ستلاحظين أن لغتي السردية، السابقة على هذه الرواية، تظهر جلية في سطور قليلة تفتتح الفصول الثلاثة ثم تختفي ...
أعتقد أن موضوع الرواية هو لغتها تحديداً. لذا أعتقد أنه كان لكل رواية كتبتها لغتها الخاصة بها ولو أن الأخيرة ذهبت إلى تجربة مختلفة بسرد وشخصيات وعوالم مختلفة "أواجهها" للمرّة الأولى، كتابياً أعني طبعاً ... يمكنني أن أضيف أيضا أن القارئ العربي – غير اللبناني – سيواجه صعوبة في فهم بعض المفردات المحليّة، لكن ذلك لا يؤرّقني أبداً إذ لم تمنعني صعوبات مماثلة في قراءة روايات عربية استعملت مفردات محليّة من الإعجاب الكبير بها وبالنهاية من فهم هذه المفردات تبعاً لمحتواها السردي ...
- إضافة إلى الصور الشعرية الكثيرة الموجودة في كتابتك تتميزين بعدم الدخول إلى متاهات ” الحشو“ الروائي والتكرار الذي يقع فيه بعض الكتاب. كما أن لغتك فيها الكثير من الموسيقى. كم من ”الشعر“ موجود في روايتك؟
هدى بركات: لأ أريد الإنزلاق الى متاهة المقارنة بين الشعر والرواية لذا سأجيب على سؤالك بشكل شخصي تماماً. إن قراءة رواية من الروائع تترك فيّ إحساساً "شعرياً". فأقول في وصفي لإحساسي ذاك: هذه الرواية قصيدة! إنه إحساس مبهم وقوي. وهو يدركنا أمام أي عمل فني عظيم، أمام لوحة أو لدى سماع موسيقى ... لأسارع إذن للقول إنّ هذا لا يعني أنّ الشعريّة هي مقياس لتقييم العمل الروائي. إنه لغة أخرى، مختلفة خاصةً في تقنيّات التكثيف ... لذا تنكسر الرواية تماماً كما تنكسر القصيدة بالحشو القاتل. في الرواية قد يكون الحشو مقطعاً وفي القصيدة جملة أو حتى كلمة لا لزوم لها ... الأمر لا يتعلّق بالكميّة بل بكسر الإيقاع الداخلي ...على أيّ حال أسمح لنفسي بالقول إننا نميل نحن العرب كثيراً الى الثرثرة ... وتبدو هذه الثرثرة واضحة عند الترجمة إذ غالباً ما تطلب الدور الأجنبية إلى بعضنا القيام بالحذف أو الإختصار ... كما أن بعضنا يعتقد أن الرواية الطويلة هي حكماً رواية مهمّة ... أمّا عن سؤالك حول حضور الموسيقى في لغتي فربّما يعود ذلك الى ولعي بالموسيقى التي أعتبرها أرقى الفنون وأقواها على الإستنفار الحسّي ... أو ربما لاعتباري اللغة العربية متلازمة بل متلاحمة مع الموسيقى، أكانت شعراً أم نثراً. هكذا تعلّمتها في متونها الأصليّة ... ولهذا ربما أقرأ الجمل بالصوت العالي وأنا أكتبها ...
- إلى أي مدى تحاولين الإستفادة واللعب في إسلوبك السردي في هذه الرواية وتوظيف أجناس ادبية أخرى؟
هدى بركات: أنا لا "أحاول" الإستفادة من مختلف الفنون ... إنها على الأرجح تدخل في تكويني نفسه. مجموع ما هو أنت يشكّل ذاتك الكاتبة. واليوم صار أكثر إلحاحاً عبورنا بين مختلف الأشكال الفنيّة ... وأيضاً وعينا الثقافي بمختلف أدواته ... وليست المسألة أبدا في استعراض ما نعرف بل في تخزينه وهضمه، بحيث يغني كتاباتنا ربما الأكثر التصاقاً بأمكنتنا ... أحياناً أشعر بالأسى الحقيقي لدى قراءة كاتب ما يملك موهبة حقيقيّة وتشعر سريعاً أنه جاهل وأن قراءاته قليلة ...
- طالما لعب الريف، دوراً أساسياً في تكوين الهويات، ثقافياً وسياسياً وشكل ذاكرة للمدينة وللمهجر. روايتك تعود إلى عوالم الريف. فما الذي تبحث عنه هذه العودة وما الذي ستعود به؟
هدى بركات: من الصعب جدا الإجابة على هذا السؤال إذ أن نصّ الرواية هو جوابي! وهو جواب فيه التعقيد وفيه المستويات الشعورية والحسّية لعالم هذه الشخصيات، وأنا لا أميل الى الشرح أو التنظير في ما خصّ السرد الروائي (وأتمنى ألا تفعل القراءات النقدية ذلك !). أحيانا تستعصي الإجابة من خارج النص ... لكن لنقل إن "عالم الريف" بحسب تعبيرك هو ليس أكثر من المدخل أو "الحجّة" لرواية أشياء أخرى. هكذا الأمر في كل رواياتي رغم ما يبدو فيها من اهتمام لصيق بالمكان والذي يتغيّر من رواية الى أخرى. أبدأ من مكان أعطيه أهميّة قصوى كي أذهب الى جعل القارئ ينساه ليذهب الى "أمكنة" النصّ الأخرى ...
- هل تظنين بأن الروائي، أخذ يحل محل المؤرخ، بوعي أو بدونه ويعيد سرد التاريخ بعيداً عن الرقابة
المؤسساتية وعن الأساطير الرسمية؟
هدى بركات: لا أستطيع الإجابة عن الكتّاب الآخرين أو عن استعمالاتهم للتاريخ. روايتي "ملكوت هذه الأرض" التي تبدأ في نهاية عشرينيات القرن الماضي – وليس في القرن التاسع عشر- هي قطعاً ليست رواية تاريخيّة، ولا العودة إلى تلك الحقبة هو بهدف التأريخ لها. مرّة أخرى زمن هذه الرواية هو حجّة. أكثر من ذلك لقد كتبت في صفحة المستهلّ، في ما يشبه الإهداء، إن هذه الرواية ليست تاريخيّة وهي تحفل بالأخطاء المقصودة لسببين: الأوّل إبعاد صفة التاريخيّة عنها. والثاني هو أنّه، في ما عدا الخرافة أو الأسطورة، أو الكتابة الأقرب إليهما، ليس هناك تأريخ حقيقي ... وهو – أي هذا الغياب – في أساس النصّ الروائي نفسه. وتعميماً أقول أن ليس للبنان تأريخ حقيقي بمعنى التاريخ الوطني الجامع. إنه تواريخ مختلفة لكل منطقة أو طائفة وهي تواريخ أيضاً متصارعة ومتناقضة... وهو ما يظهر جلياً في حاضرنا ... ربما هذا ما تذهب الرواية إليه أيضا ...
الأخطاء المتعمّدة إذن، وفي استعمالاتها المتعددة المستويات إشارات إلى تقريب الرواية مما أردته لها ... وهي في حالات ما تشير تحديداً الى ضعف ارتباط الشخصيات بالتاريخ، أو تشي بملامح أخرى عن وعيهم لعالمهم ... كأن يقول واحد منهم عن عامل سوري إنه نصيري وأن بلاده حوران!! هذا الخلط مثلاً يدلّ على نظرة تحقيريّة الى ذلك "الفاعل" لأنهم من "هناك" أي مثل بعض ...
- أنت الآن تقيمين في برلين منذ حوالي ستة أشهر تقريباً حتى مطلع الصيف القادم في زمالة مع مؤسسة الـ“ فيسنشافت كوليج“. ماهي انطباعاتك عن برلين وكيف أثرت أجواؤها على كتابتك؟
هدى بركات: برلين رائعة. ربّما لأنّي فيها أنعم بحياة مرفهة ، بعيدة عن شروط حياة المقيمين. أكتب، ولا عمل أو هموم معيشية. ذلك أقرب الى الحلم ... وهو للأسف ما لا توفّره لنا إلاّ المؤسّسات الأجنبية. وفي هذه الشروط أقيم الآن في برلين بعد إقامة سنوات طويلة في باريس في ظروف مختلفة تماماً ويمكن اختصارها بالمضنية.
لكن برلين ولأسباب "موضوعيّة" أرحب بكثير، أوسع بكثير، وفيها حضور حاسم للطبيعة ... من غابات وبحيرات ومساحات خضراء ... وينعكس ذلك حكماً على المزاج العام ... ويبدو لي أن أهل برلين أقلّ تشنّجاًً بكثير من الباريسيين ... وأكثر انفتاحاً على رحابة العالم ... لذا ربّما يقع الحدث الثقافي المتجدّد والشابّ والمتحرّك بحيويّة كبيرة هنا في برلين بينما ما تزال باريس تنام – مع الكوابيس المتوجّبة - على أمجاد مضت ...
[أجرت الحوار محررة ”جدلية“ ابتسام عازم بمناسبة صدور "ملكوت هذه الأرض" الرواية الخامسة لهدى بركات عن دار الآداب في بيروت. ولدت هدى بركات في لبنان عام 1952 وانتقلت للعيش في باريس عام 1989 حيث تعمل كصحفية وكاتبة. صدرت لها مجموعات قصصية وروايات ومسرحيات من أشهرها روايات ”حجر الضحك“ (1990) و“أهل الهوى“ (1993) و“حارث المياه“ (2000) و”سيدي وحبيبي“ (2004).]